بقلم "هبة الدعوشى" :
وكانت هى مخلوقة بشرية من نوعٍ ما "غريب " .. مُختـلِف لكنه مُؤتـلِف ..
كانت من حيث عدد السنين الأرضية الظاهرة : فى العشرين من عمرها .. ومن حيث عدد السنين العقلية الباطنة : تَفُوق ذلك بكثيـــر.. تَفُوقه حد الهِرَم .. فاستحقت بجدارة ذلك اللقب " عجوزٌ عشرينية "
كانت لها هيئة فتاة كما يُقال " فى ريعان شبابها " ..
لكنها تملك قلباً طفولياً متشبثاً بذكرياته الطفولية البريئة وأحلامه الجريئة ويلاحقها فى كل مكانٍ وزمانٍ خشية أن يسلبه الزمن إياها ، فينساها ..
وتملك فى الوقت ذاته عقلاً ناضجاً تخطى زمنه سريعاً .. وتعلم كثيراً ومريراً من خبراته التى خاضها فى زحام دنياه ، بل و زاد عليها من خِبرات دنيا من سواه ..
إما بدقة ملاحظته لمن حوله فى زمنه وإما بإطلاعه عليها فى مخطوطات كتابية و روايات شفهية خلفها الزمن الماضى أثراً لهم ..
كان تنظر إلى أمور الحياة دوماً بشكل مختلف .. تنظر إليها بشكل شمولى تأخذ فيه ظاهره الذى يراه _تقريباً_ الجميع ،وباطنه الذى قد يخفى على الكثير ..
ثم تعقد المقارنة ما بين هذا وذاك وتحلل تفصيلاته وتنظر فى أبعاده .. ودوافع الأفعال ونتائجها .. وكوامن الشعور وظاهرها .. جاهدة فى أن تصل إلى حكم صائب على الأمر الذى أمامها دون أن تجور على أحد أو حتى على شئ .. فهى بقدر ما تكره الظلم بقدر ما تخشى أن تكون أحد أسبابه يوماً ما ..
ولكنها تعود وتذكر أن الإنسان بطبعه " ظلوماً جهولا" .. فتستغفر كثيراً كثيراً بحرقة وألم لما قد يكون صدر منها ساعةً ما من ظلم لغيرها أو لنفسها وهى لا تلقى له بالاً ..
كما كان عقلها دائماً مُثقلٌ بأفكاره كذلك كان قلبها مُثقلٌ بشعوره ..
كانت بقلبها وحبها اللاحدودى للغير تشعر بأنه قد يستطيع أن يسع كل هذا الكون .. كل هذا الزمن الذى تحياه والزمن من قبلها ومن بعدها ..
كانت تحب بصدق وبلا انتظار أى مقابل سوى أن ترى الآخر بخير .. تحب العطاء وتعشق حماية من تحب والدفاع عنهم والخوف عليهم .. وللتضحية عندها معنى راسخٌ فى قلبها لا يحتاج سوى موقف بسيط يستحثه ليتجسد قوياً صادقاً فى فعلها..
حتى أنها كانت تشعر بهذا الحب الغريب تجاه بعض العابرون فى الطريق والذى قد لا تلتقيهم ابداً مرة أخرى فى حياتها ..
وكان من أحب الناس إليها ..هى أمها ..
كانت ناضجة أمام الجميع ولكن طفلةٌ صغيرة بين ذراعى أمها .. تتشبث بيدها حين تتعثر.. تحب أن تسير خلفها على خطاها حيناً وإلى جانبها حيناً آخر .. لكنها كانت قليلاً ما تحب الركض أمامها بعيداً كانت تخشى إن فعلت ذلك أن تنظر خلفها فلا تجدها وتجد نفسها دونها وحيدة ..
وبالطبع كان للأطفال عنددها مكانة خاصة .. بعيداً عن حب مدعابتهم ومضاحكتهم أو إحساس الأمومة تجاههم _والذى يُميز تقريباً أغلب الفتيات منذ صغرهم_ كانت دائماً نظرتها للأطفال مصحوبة بالشفقة .. !
كانت تشفق على برائتهم كثيراً أن يبددها الواقع حين يدركوه .. وعلى ابتسامتهم البريئة أن" تدفنها الحياة " ،فلا يظل منها سوى ذكرى فى ماضيهم البعيد ..
وابتسم بتعجب سُخرىّ حين آرانى كتبت .." تدفنها الحياة " !
واتذكر قول درويش هنا: " فإن أسباب الوفاة كثيرة ، من بينها وجع الحياة "
لم تكن ابداً تُحب أن تعيش لنفسها .. كانت بعقلها وقلبها تحمل هم أُمتها من حولها .. تنشغل بأمورها كثيراً وتفكر كيف يمكن أن تؤدى دوراً من أجلها ..
كانت تخشى كثيراً أن تنتكس يوماً عن طريقها ..
تخشي كثيراً أن يغيرها الواقع من حولها لشخص لا ترغبه ..
تجاهد نفسها .. عقلها وقلبها ..
تحاول دائما أن تردهما إلى الله كلما ضلا أو تاها ..
تحاول
وتحاول
وتحاول ..
ولا تتمنى شيئاً أكثر من أن تُنهى حياتها فى سلام ..
أن تغادر الدنيا بأقل قدر من الخطايا ..
وأن تترك للناس من بعدها إرثاً حسنا ..
وذِكراً عذباً رقيقاً..
فهلّا أعنتها يا الله ..!
No comments:
Post a Comment